وأنا أتابع قضية الديون والمناقشات الدائرة بين الحكومة وصندوق النقد، مع إمكانية وجود حلول أخرى غير الاستدانة، تذكرت حوار رائع بين "خليل" و"خطاب" في رائعة ثلاثية "الوسية" للعبقري خليل حسن خليل، قال خليل لخطاب معترضاً على سرقته لجوال قمح "الحق لا يؤخذ بالسرقة في إنصاص الليالي، الحق يؤخذ في النور، وهناك طرق أخرى للحصول على الحق.. فرد عليه خطاب "نحن نعيش في زمن إذا ما كنتش تاكل تتاكل".
لا أعرف لماذا جاء على بالي هذا الحوار الرائع، في ظل المفاوضات الجارية بين الحكومة وصندوق النقد الدولي حالياً حول المراجعة الخامس والسادسة، بشأن برنامج الإصلاح الاقتصادي، وجدول سداد الديون، وسط خلاف على بعض النقاط، والعمل على صرف الشريحة الأولى من تمويل الصندوق والمقرر أن يكون بقيمة حوالي ملياري دولار على شكل دفعات، بشرط تنفيذ معايير حددها الصندوق.
ولكن السؤال، لماذا نضع أنفسنا في هذا المأزق، وتتراكم الديون، طالما هناك حلول أخرى، لتعظيم موارد النقد الأجنبي، فالدين سيظل يمثل العبء الرئيسي في نسب الإنفاق بالميزانيات العامة للدولة، خاصة مع الزيادة المستمرة في الاقتراض الحكومي، واستمرار الخلل في التخبط المتعلق بالسياسات المالية والاقتصادية التي تتبعها الحكومة منذ سنوات، ولا يوجد مؤشر على تغييرها، بالرغم من التفاؤل المحدود، والذي تزامن مع تصريحات رئيس الوزراء الدكتور مصطفي مدبولي، مؤخرا، عن تركيز الحكومة خلال السنوات الثلاثة المقبلة على رعاية المواطن، وحصاد نتائج الإصلاح الاقتصادي.
والأرقام مازالت مقلقة، خاصة تلك التي تشير إلى أن نصيب الفرد من الإنفاق على مدفوعات الفوائد في موازنة عام 2026/2025، بلغ أكثر من 21223 جنيهًا، في حين لم يتجاوز نصيبه من الإنفاق على الصحة نحو 2274 جنيهاً، وحوالي 2910 جنيهات على التعليم.
ووفقاً للتحليل المحايد فإن هذا الاختلال عكس أولويات مالية تميل نحو خدمة الدَّين قصير الأجل على حساب التنمية البشرية طويلة الأمد، التي تُعد شرطًا أساسيًّا لتحسين مستوى المعيشة، والحد من الفقر، وبناء قوة عمل مؤهلة، وتعزيز النمو الشامل والمستدام.
وفي أرقام تحليلية صادرة عن دراسة للجامعة الأمريكية فقد ارتفعت تكاليف خدمة الدَّين بين العامين الماليين 2016/2015 و2024/2023 سبعة أضعاف، لتصل إلى نحو 50.2% من إجمالي الإنفاق المتوقع في موازنة 2026/2025.
ولاشك أن ذلك مرده بسبب كون الحكومة تعتمد بشكل أساسي على أدوات دَين محلية قصيرة الأجل ومرتفعة التكلفة، حيث بلغ متوسط أجل استحقاق الإصدارات وقت الطرح المقومة بالجنيه نحو 0.84 سنة في سبتمبر 2024، وهو ما يفاقم احتياجات إعادة التمويل ويزيد من التعرض لتقلبات أسعار الفائدة.
ومن المهم مراجعة السياسات الحكومية، خصوصاً في التمويل، والتي تعتمد على الاقتراض كمصدر رئيسي للتمويل، فالإيرادات الضريبية في مصر منخفضة، كما تراجعت خلال السنوات الأخيرة إلى نحو 12% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023، مقارنة بمتوسط يبلغ 17% في الأسواق الناشئة المماثلة.
وتوقعت دراسة "حلول للسياسات البديلة" أن تأتي أكثر من نصف إيرادات الحكومة في موازنة عام 2026/2025 من القروض، وهي ما ستسفر عنه مثل هذه المعادلة دائرة مالية مغلقة، إذ تضطر الحكومة إلى الاقتراض المستمر لسداد ديونها السابقة، نتيجة ضعف الإيرادات العامة وعدم كفايتها لتغطية خدمة الدَّين وبقية بنود الإنفاق.
ورغم أن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أعلن مؤخرًا عن بدء تراجع نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر، وأن الحكومة تستهدف خفضها إلى ما دون السبعين في المئة خلال خمس سنوات، فإن المحللين الماليين يرون أن تراجع هذه النسبة وحده لا يُعدّ مؤشرًا كافيًا على التعافي المالي، بينما أن المطلوب لضمان استدامة الدَّين على المدى الطويل، يتمثل في أن تقوم الحكومة بإعادة ترتيب أولوياتها المالية وزيادة الإنفاق الاجتماعي.
وبمراجعة أرقام ميزانية العام 2026/2025، يتضح – وفقا للتقرير – أنها تعكس اختلالًا واضحًا في أولويات الإنفاق، إذ تظل مدفوعات الفوائد البند الأكبر في المصروفات الحكومية، ما يترك حيزًا محدودًا للإنفاق الاجتماعي، مع تراجع حادّ في الإنفاق الاجتماعي مقارنة بحجم الاقتصاد، فقد انخفضت مخصصات الصحة والتعليم كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الأخيرة، وبقيت دون المستوى الذي يحدده الدستور.
ومن المهم على متخذي القرار إدراك أن التعرض للتقلب في سوق العملات الأجنبية زاد من هشاشة المركز الخارجي لمصر، وقد شكّل الدَّين المقوم بالعملات الأجنبية نحو 30.3% من إجمالي الدَّين العام في يونيو 2024، ومن هناك ستظل الديون هي بمثابة كرة النار الملتهبة في ميزانيات الدولة، والتي بحاجة لمراجعة، بعيداً عن ربط ارتفاع الدين بأسعار عملات التقييم والعلاقة بين "اليورو والدولار، والعكس".
والتدقيق في الأرقام مهم، مع قيام الحكومة بتخصيص 37.7% من الإيرادات الجارية لسداد الدَّين الخارجي في العام المنصرم، وهو ما يعادل ضعف ما كان عليه قبل خمس سنوات، بينما يرى المراقبون أن التركيز على الإنفاق الاجتماعي ما يزال مفقوداً، وبالتالي فمن الحلول المطلوبة لمعالجة أزمة الديون ضرورة اتخاذ خطوات عملية لوضع حدود للدَّين العام، والالتزام بوقف التمويل النقدي المفرط، وفرض الشفافية في التقارير المالية مع مساءلة عند عدم الالتزام، إلى جانب إعطاء الأولوية للاستثمار العام في التنمية البشرية.
-----------------------------
بقلم: محمود الحضري






